سجن دياربكر.. استعارة الدولة التركية في مئويتها

2٬013

رستم محمود

كان مشهدا سرياليا للغاية: فبينما كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يعلن عن نية حكومته “تحويل سجن دياربكر إلى صرح ثقافي وفني”، باعتباره مكانا “مورس فيه الظلم الفظيع”، حسب تعبيره، كانت أجهزته الأمنية تعتقل رئيسة نقابة الأطباء في البلاد سبنيم فينكانسي، لأنها طالبت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بإجراء “تحقيق مستقل وشفاف حول الاتهامات التي تطال الجيش التركي بشأن استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد المقاتلين الأكراد”!!.

تبدو تلك الثنائية تعبيرا مكثفا عن تاريخ وحاضر الدولة التركية، التي ستحتفل بذكرى مرور مئة عام على تأسيسها بعد أيام قليلة: فسجن دياربكر هو الصرح المادي الأكثر وضوحاً ودلالة على “نهج الإبادة” الذي قامته عليه البنية المركزية لهذه الدولة، وحافظت على نفسها عبره. فيما تشكل حادثة اعتقال نقيبة الأطباء كشفا عن السلطة الفعلية داخل هذه الدولة وديناميكيات فعلها. فكل الوعود والتباشير الانتخابية التي تبذلها مختلف الأحزاب السياسية في البلاد راهنا، غير قادرة على حماية شخصية مدنية واحدة في البلاد، تملك موقعا رمزيا مميزا، وفقط لأنها تطالب بحق مدني دستوري بسيط، هو “إجراء تحقيق”.

سجن دياربكر كان التجسيد المرئي الوحيد لثلاثة أشكال من الإبادة، تأسست عليها الدولة التركية وراكمتها طوال مئة عام من تاريخها: الإبادة العرقية والجغرافية لمسيحي الدولة التركية، الأرمن والسريان واليونان، الذين كانوا يشكلون ثُلث سكانها في سنوات التشكل الأولى، فصاروا أقل نصف بالمئة بعد شهور قليلة من ذلك الوقت. والإبادة الرمزية التي طالت أبناء المذهب العلوي من مواطني البلاد، عبر إنكار وجودهم وحقهم في حرية الضمير والحضور والمساواة مع المذاهب الأخرى في المجال العام والاستفادة من خيرات الدولة. وأخيرا الإبادة السياسية لأكثر من 25 مليون مواطن كردي، عبر منعهم مطلقا من أي اعتراف أو تعبير عن هويتهم وحقوقهم القومية والثقافية والجغرافية والرمزية.

السجن المريع الذي يتوسط أكبر المدن الكردية جنوب شرق البلاد، الذي يهيمن على الذاكرة الجمعية للسكان المحليين، باعتباره تجسيدا لكل أشكال الفاشية الإيديولوجية والعنف البارد الذي كان يمارسه جلادو السجن على مئات آلاف المعتقلين، طوال قرابة قرنٍ كامل، كان بمثابة المراقب والحارس الشخصي لتلك التركة المريعة من التأسيس والاستمرارية التي انبلجت عنهما الدولة التركية.

فقد كانت زنازينه متخمة على الدوام بثلاثة أنواع من المعتقلين، الذين كانوا يُعبرون عن تلك الإبادات التأسيسية الثلاث: الحقوقيون المدنيون، الذين بقوا على الدوام يطالبون بفتح ملفات الماضي، بشأن الإبادة الأرمنية السريانية اليونانية. واليساريون الثوريون، الذين كانوا بأغلبيتهم المطلقة من تعبيرات وأبناء الطائفة العلوية. والقوميون الأكراد، من أعضاء الحركة التحررية الكردية.

قليلة هي المنتجات الأدبية والأرشيفية والسينمائية عن تلك البقعة/الوصمة، لكن مرويات المئات من شاغليها، وعلى مختلف الأجيال، تؤكد على وجود ثنائية واضحة ودائمة داخل ذلك الصرح المريع: السجناء، الذين يمثلون تلك النزعات والدعوات. والسجانون، المنحدرون بالضرورة من العصب الرئيسي للدولة التركية، من بنيتها ونواتها القومية الطائفية النخبوية الصلبة، الذين يملكون وعياً مركزياً بالذات، يعتبر هؤلاء السجناء عدواً وخطراً جسيماً على ما يتخيلونه ملكهم الخاص “تركيا”.

تغيرات حكومات وحدثت انقلابات ودخلت تركيا حروباً وبدلت ولاءات، إلا أن الثنائية المتقابلة تلك بقيت ثابتة، صامدة وجبارة، مرتبطة ومتأتية مما هو أعمق من كل ذلك، شاخصة أمام أعين الملايين من الأكراد وسكان جنوب شرق تركيا، كعقاب وتذكير يومي بجبروت وحشٍ اسمه “الدولة”.

كان السجن، وما يجري داخله، واحداً من “التابوهات الكبرى”، التي ما استطاعت أي تيار سياسية أو مدني أو ثقافية تداوله بوضوح وشفافية، بقي على الدوام شيئاً غامضاً ومستتراً ومسكوتاً عليه، يشبه تلك السجون الاستثنائية في الكثير من بلدان منطقتنا: سجن تدمر في سوريا وتزمامرت في المغرب و”نقرة السلمان” في العراق. تلك التي تشغل مكان تواطؤ ومساكتة بين عصب الدولة والقوى السياسية والثقافية والمدنية في البلاد. ولأجل ذلك، فأنها تُعبر عن اللعبة والمعادلة الحقيقة في البلاد.

بعد قرنٍ كامل، ما يزال سجن دياربكر تعبيراً عن راهن الدولة التركية، نواتها ومعانيها الأكثر تجسيداً لحقيقتها العارية.

فالسجن هذا، يعبر عن الطبيعة الحقيقية لخلافات الأحزاب والقوى السياسية في البلاد، التي تتصارع على ما هو دون عصبية الدولة واستقرارها وحقها في إخضاع غير المركزيين منها، دولة هي مُلك مطوب لأبناء جهوية وعرق وطائفة بذاتها، لا تملك إلا العنف لطمر تطلعات الآخرين.

كذلك فأن السجن بالنسبة للحاكمين هو مجرد مكان، كتلة من الإسمنت والحديد فحسب، وليس آلية حُكم ونوعية من العدالة. فالسجن لن تتم تصفيته كبؤرة ووصمة مورست فيه أبشع أنواع العار الإنساني، بل فقط سيُنقل سجنائه إلى ما قد يناظره تماماً. الدليل على ذلك استبعاد الاعتذار والشعور بالعار، رفض كشف سجلاته وحولياته ومروياته الداخلية.

فوق الأمرين، فإن السجن هو مجرد داعية انتخابية، وليس مساً بالضمير وتغيراً في الوجدان، في تطابق متناهي الدقة مع تاريخ هذه الدولة، التي كانت عنيفة واقصائية على الدوام، لكنها تجهد وتلهث لأن تُظهر نفسها كأبنٍ بارٍ للحداثة الديمقراطية الغربية، وإن شكلاً فحسب.

-الحرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.