تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا عامها الثاني، بينما كانت الخطة الروسية الأولى أن تكون “عملية خاصة”، كما يسميها الإعلام الروسي، أي أن تكون حرباً خاطفة تزلزل الطبقة السياسية الحاكمة ذات الميول المعادية لروسيا بوتين، وربما لروسيا دون إضافة، تمهد لعودة الحكم إلى طبقة سياسية موالية لموسكو، أو على الأقل غير ذات ميول غربية. غير أن الطبقة الحاكمة في أوكرانيا تمكنت من امتصاص الصدمة الأولى، وكانت قد استعدت لها بمعونة أمريكية؛ فالاستعدادات الروسية للغزو لم تكن خافية، ولاسيما على أميركا التي كانت تتابع الحشود بدقة حتى أنها أوشكت أن تحدد ساعة بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
أدت المقاومة الأوكرانية التي فاقت التوقعات إلى فشل الخطة الروسية الأولى، ما دفع إلى تطبيق الخطة البديلة التي تبين أنها احتلال شرق أوكرانيا حيث تعيش نسبة كبيرة من الروس، ثم ضم هذه المناطق إلى روسيا، كما شهدنا. واضح أن تطبيق هذه الخطة كان مستبعداً من قبل بوتين الذي يبدو أنه لم يشك في نجاح الخطة الأولى، وقد سبق له أن سخر بغطرسته المعهودة، في فيديو مشهور، من رئيس جهاز مخابراته لأنه قال إنه يجب ضم مناطق شرق أوكرانيا إلى روسيا.
اليوم، بعد عام من الحرب، يبدو الوضع غير تفاوضي. والحقيقة أنه بعد دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا، صار الطريق التفاوضي شبه مغلق، لأن العالم دخل بعدها في مرحلة كسر إرادات، لا يبدو أنها قابلة للتسوية، كما لا يبدو أنها قابلة للحل العسكري. هذا وضع خطير يشبه وجود نار لا تنطفئ في مستودع مواد متفجرة. الحسم العسكري صعب وربما مستحيل، فروسيا لن تتمكن من الانتصار بعد نجاح المعسكر الغربي في التماسك في وجهها، والنصر الأوكراني غير ممكن لأن أي بوادر هزيمة روسية سوف تضع العالم على شفا حرب نووية، فمن المستبعد أن تفضل القيادة الروسية الهزيمة على استخدام السلاح النووي، التكتيكي على الأقل، الأمر الذي سوف يؤدي إلى انخراط الناتو بصورة مباشرة في الحرب. وإذا كان الناتو، حتى الآن، أعقل من أن يدفع نحو حرب عالمية ثالثة، أو حرب عالمية أخيرة بالأحرى، يبقى من الصعب السيطرة على تطور عملية لا تمتلك كل عناصرها.
الحق أن الحرب الأوكرانية ألقت ضوءاً على مدى هشاشة عوامل الأمان في العالم الذي بات يمتلك القدرة على الانتحار، ولا تنقصه الخراقة (أو الغطرسة) الكافية لفعل ذلك.
يعرض علينا العالم حقيقة أن وقود السياسة في نظر الدول المسيطرة هي الأزمات وما ينجم عنها من صراعات، ذلك أن الأزمة تشكل بيئة خصبة للاستثمار، فيجد السياسيون تلالاً يرتفعون عليها وإن كانت من خراب الآخرين. كما تشكل الأزمة سوقاً رائجة للبضائع، ومن ضمنها بضاعة الحروب سواء منها المنخفضة الشدة أو عاليتها. وعليه فإن السياسة الجيدة، وفق هذه النظرة، هي تلك التي تخلق الأزمات، وأفضل الأزمات هي الأزمات المستعصية أو غير القابلة للحل، لأنها بئر استثمار لا ينضب.
قبل أن “تنجح” السياسة الدولية في بناء أزمة مستعصية في أوكرانيا، كانت قد أذاقتنا نصيبنا، وما زالت، من هذه السياسة في سوريا. فقد ساهمت السياسة الدولية، بكل ما تملك من قدرات ووسائل مؤثرة، وبعينين مفتوحتين، في تحويل صراع سياسي، كان يمكن أن يكون منتجاً، إلى صراع هوياتي مدمر ومرهون بإرادات وصراعات من خارجه، مستفيدة، لا شك، من العناصر المتوفرة سلفاً في المجال السياسي السوري.
على غرار ذلك، لم يكن من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه حال الغزو الروسي من أزمة مستعصية. ليس خافياً على أحد أن دولة عظمى مثل روسيا، وبصرف النظر عمن يحكم فيها، لن تستوعب انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. يصح ذلك على بوتين (الكاره للغرب) كما يصح على بوريس يلتسن (المغرم بالغرب) والذي كان يعتبر أن مركز السياسة العالمية هي الشراكة بين روسيا والولايات المتحدة. يلتسن هذا اعتبر، في 1994، في عز اندفاعه الغربي، أن توسع الناتو إلى الشرق هو “حصار جديد” وأن فيه إذلال لروسيا. لم يكن الحال مختلفاً في زمن ميخائيل غورباتشوف التصالحي مع الغرب، فقد حصل آخر زعيم سوفييتي على ضمانات أمريكية بعدم التوسع إلى الشرق مقابل قبوله دخول ألمانيا الموحدة في الناتو. التوسع المحتمل الذي كان يثير مخاوف يلتسن وغورباتشوف كان يتعلق بدول مثل المجر والتشيك وبولونيا (هذه الدول انضمت إلى الناتو في 1999)، ولا شك أن المخاوف ستكون أكبر حين يتعلق الأمر بأوكرانيا، الجارة الأكبر، والأخت الشقيقة لروسيا. سبق لصحفي أميركي مهم أن وصف الغزو الروسي لأوكرانيا بأنه “جريمة شرف”.
إصرار الناتو (أميركا) على عدم رفض رغبة الحكومة الأوكرانية الانضمام إلى الناتو، ليس إلا تأجيجاً للمشكلة وتوفيراً لعناصر الحرب، بصرف النظر عن شخصية ومطامح وأمراض فلاديمير بوتين التي يعتمدها تيار واسع من المحللين بوصفها أساس المشكلة، في حين أنها، في تصورنا، جزء يتكامل مع أجزاء أخرى تقع خارج روسيا.
حياد أوكرانيا هو السبيل الأفضل لأمنها وتطورها، وقد سبق أن وقعت مذكرة أمنية في بودابست (ديسمبر/كانون الأول 1994) مع روسيا وأميركا والمملكة المتحدة، تخلت فيها عن ترسانتها النووية “السوفييتية” لروسيا، وتعهدت الدول الموقعة ضمان استقلال أوكرانيا وعدم تعرضها لعدوان خارجي أو ضغوط اقتصادية أو هجوم نووي. الدخول إلى الناتو في هذا الإطار ينم عن سياسة حمقاء من جانب أوكرانيا، وغير مسؤولة من جانب الناتو. وإذا أضفنا إلى هذا الطبيعة الديكتاتورية للرئيس الروسي ونزوعه العنفي، نحصل على العناصر الكافية لإنتاج الحال الذي يجد العالم نفسه فيه اليوم، من أزمة عصية على الحل وتحمل في ثناياها احتمالات تطور مرعبة.