على الرصيف أمام مستشفى الأطفال بدمشق، يقف أسعد العبدالله القادم من دير الزور، شرقي سوريا، في انتظار تأمين الدواء لابنه المصاب بسرطان الدم.
يقول “العبدالله”: إن رحلة العلاج التي استمرت تسعة أشهر كلفته 230 مليون، وهو ما يمثل عبئاً ثقيلاً على كاهل رجل بسيط، على حد وصفه.
قرارات تعسفية
وعانت المشافي الحكومية منذ عهد النظام السابق من مشكلة نقص الأدوية، والقرارات التعسفية ساهمت بزيادة تفاقم المشكلة.
وفي عام 2018، صدر تعميم يقضي بتوحيد تأمين احتياجات الجهات العامة من الأدوية والتجهيزات الطبية تحت إشراف وزارة الصحة، ليشمل وزارات الصحة والتعليم العالي والدفاع والداخلية.
حيث تتولى الوزارة وفق قانون “الاستجرار المركزي” تأمين الاحتياجات الطبية.
ورغم الاعتراضات المتكررة من الأطباء على مركزية القرار، فإن وزارة الصحة أصرت على تطبيقه، ما أدى إلى نتائج كارثية في المشافي السورية، حيث وصل الحال إلى إفراغ المشافي من الأدوية والمستلزمات الطبية.
ويقول رئيس قسم العناية المشددة في مستشفى الأطفال الدكتور أيمن البلخي، لنورث برس، إن قرار الاستجرار المركزي تسبب في أزمة حادة في توفير الأدوية داخل المشفى.
ويضيف: أنه أدى إلى نقص كبير في الأدوية، الأمر الذي اضطر الأهالي إلى تحمل مسؤولية تأمين الأدوية لأطفالهم.
ويشير إلى أن المشفى كان يعتمد بشكل أساسي على دعم الأهل في توفير الأدوية التي لم تصلهم بكميات كافية من وزارة الصحة.
ويوضح أن الوزارة كانت توفر فقط 20 بالمائة من الأدوية المطلوبة سنوياً، ما جعل الوضع أكثر صعوبة.
احتكار الأدوية
فيما يتعلق بمناقصات الأدوية، يقول “البلخي”، إن “الاستجرار المركزي ألغى المناقصات الفرعية، التي كانت كل مشفى مسؤولة عن تنظيمها وتأمين مستلزماتها الخاصة”.
ويضيف أن القانون حصر المناقصات في يد وزارة الصحة، مما أدى إلى احتكار الأدوية والمواد الطبية من قبل جهة واحدة، وهو ما يراه محاولة للسيطرة والاستفادة منها بشكل مركزي لمنحها لفئة معينة.
ويشير إلى أن النظام السابق ألحق ضرراً كبيراً بالقطاع الصحي، حيث جعل تجار السوق السوداء يتلاعبون بأسعار الأدوية والمستلزمات الطبية، بحيث كانوا يبيعون الأجهزة الطبية للمشافي الحكومية بأسعار مضاعفة مقارنة بالمشافي الخاصة.
ويعتبر مسؤول قسم العناية المشددة بمستشفى الأطفال أن هذا الهدر كان نتيجة سياسة النظام السابق في القطاع الطبي وإدارة المناقصات، التي كانت تتيح استغلال موارد الدولة.
ويشدد أن غياب الأدوية الإسعافية كان من أخطر العواقب التي تمخضت عن القانون، حيث تسبب ذلك في زيادة عدد الوفيات في قسم العناية المشددة، بسبب عجز الأهل عن تأمين الأدوية الضرورية.
ويضيف: “حتى عندما كان الأهل قادرين على تأمين الأدوية، كنا نعجز عن تأمين سيروم في المشفى”.
فيما يقول أسعد العبدالله، أب لطفل مصاب بالسرطان، إن “كل يوم يخرج من مشفى الاطفال بدمشق طفلان متوفيان”، مضيفاً أن عوائل الاطفال “عاجزة عن تحمل التكلفة التي عجزت عنها المشافي الحكومية”.
سرقة بغطاء قانوني
قانون الاستجرار المركزي كان يوفر حوالي عشرة مليار ليرة سنوياً، بحسب الدكتور أيمن البلخي، الذي يرى أن هذا “التوفير” لم يكن سوى سرقة لصالح خزينة القصر الجمهوري.
ويصف ذلك بأنه “سرقة تحت غطاء قانوني”، مشيراً إلى أن الأموال التي وفرها القانون كانت من جيوب المواطنين الفقراء، والذين كانوا يضطرون لدفع مئات الآلاف يومياً لأدوية أطفالهم، رغم أنهم لا يملكون ثمن رغيف الخبز.
ويشير إلى أن النظام السابق أجبر الفقراء على دفع ثمن الأدوية “التي كان يفترض أن توفرها لهم المشافي الحكومية”.
ويرى “البلخي” أن الوضع كان أفضل قبل تطبيق قانون الاستجرار المركزي، حيث كان بإمكان المشافي تأمين الأدوية بحرية أكبر، وهو ما جعل الوضع الصحي أكثر استقراراً قبل القانون.
ويشدد على أهمية أن تبحث الحكومة الجديدة عن وسيلة بديلة لإصلاح نظام المناقصات، بدلاً من الاستمرار في هذا النظام الذي استفادت منه لجان الشراء والإدارة الفاسدة داخل المشافي.
توحيد شبكات الفساد
من جهته، يكشف مدير قسم الحواضن في مشفى الأطفال، الدكتور نادر عيد، كيف أسهم قانون الاستجرار المركزي للأدوية في توحيد شبكات الفساد تحت مظلة وزارة الصحة.
ويقول الدكتور عيد، لنورث برس، إن المواد الطبية الأجنبية كانت تُستورد عبر شركة “فارمكس”، حيث كانت المشفى ترفع طلباً للوزارة يتضمن احتياجاً بنسبة 100بالمائة، إلا أن الوزارة كانت توافق على توفير 25 بالمائة فقط، وتقوم بتسليم المشفى 15 بالمائة منها.
ويضيف أنه عند محاولة طرح المشاكل والمخاوف على الوزارة، كان الرد الفوري في الرفض والإقالة، مشيراً إلى مثال رئيس مشفى البيروني السابق الذي ناقش مع وزير الصحة في تلك الفترة موضوع نقص الأدوية وقال له: “مستودعاتنا فارغة”، ليصدم بعدها بإقالته من منصبه.
ويشير “عيد” إلى أن الحواضن الطبية في المشفى كانت في حالة “اهتراء”، ورغم الحاجة الماسة للصيانة، رفضت الوزارة إعادة تأهيلها.
كما يتحدث الدكتور نادر عيد عن النقص الهائل في عدد الممرضات، قائلاً: “كانت هناك ممرضة واحدة فقط لكل 50 طفلاً”، مشيراً إلى أن العديد من الممرضات اللواتي تم إرسالهن إلى مشفى الأطفال كن يتسابقن للانتقال إلى مستشفيات أخرى بسبب الظروف الصعبة.
ولم يقتصر الوضع على ذلك، وفق الدكتور عيد الذي أشار إلى أن 80 بالمائة من أهالي المرضى كانوا يضطرون لتوفير الأدوية بأنفسهم. لافتاً إلى أن الزيادة في عدد الوفيات كانت نتيجة رئيسية لانتشار الإنتانات بسبب نقص التعقيم في المشافي.
هذا القانون أدى إلى استحواذ كبار التجار على الساحة، وهو ما يثير التساؤل عما هي الفائدة من إخضاع مواد بسيطة للاستجرار المركزي، في حين أن السيطرة عليها ممكنة، ورقابة أسعارها واضحة؟ وهل باستطاعة المشافي التي تحتاج لمواد تخدير انتظار مناقصة طويلة الأمد؟.
نورث برس