خارج التفسيرات والمعطيات الجيوسياسية الكُبرى، يتساءل المحللون المنشغلون بالشأن التركي عن الدوافع النفسية والذاتية والسياسية الداخلية التي حفزت زعيم الحركة القومية التركية “المتطرفة” دولت بهجلي إلى أن يُقدم مبادرته الاستثنائية تجاه القضية الكردية في تُركيا، وأن يوجه من سُدة البرلمان التركي نداء لزعيم “حزب العمال الكردستاني” المُعتقل عبد الله أوجلان، مطالباً إياه بالقدوم إلى البرلمان، والشروع في عملية سلام مستدامة في تركيا، وهو– دولت بهجلي- الذي بقي طوال ربع قرن كامل مضى يلوم السلطات التركية على عدم إعدامها لأوجلان!
أغلب الظن، أن بهجلي الذي يشغل موقعاً مركزياً في الحياة السياسية التركية منذ ستة عقود، فعل وشهد خلالها كل أنواع القتل بالكُرد وقواهم السياسية والمسلحة، من انقلابات عسكرية ومحق ديموغرافي وقمع ثقافي وإنكار سياسي وإلغاء رمزي، صار يسأل نفسه: “لكن ماذا بعد؟!”، حيث ما استطاعت كل تلك الأفعال اقتلاع وتفكيك أصل المشكلة وجذرها. فبعد كل ما حدث، ما يزال الكُرد قوة ديموغرافية وسياسية حيوية في البلاد، مصرين على ما طالبوا به منذ لحظة تأسيس الدولة التركية، وقوتهم السياسية المسلحة، المتمثلة في “حزب العمال الكردستاني”، التي ما تزال قادرة على التكيف مع كل التطور العسكري التركي، محافظة على موقعها كأداة تشغل بال تركيا وتعكر استقرارها.
لا يبدو سؤال بهجلي: “لكن ماذا بعد؟!” خاصاً بتركيا فحسب، بل يمتد ليطال دولاً وتنظيمات وتجارب سياسية وميدانية كثيرة، جرب القائمون عليها كل الخيارات دون أن يتمكنوا من الوصول إلى وقائع ميدانية ناجزة
وحسب المشهد الإقليمي العام، لا يبدو سؤال بهجلي: “لكن ماذا بعد؟!” خاصاً بتركيا فحسب، بل يمتد ليطال دولاً وتنظيمات وتجارب سياسية وميدانية كثيرة، جرب القائمون عليها كل الخيارات بحدها الأقصى، لكن دون أن يتمكنوا من الوصول إلى وقائع ميدانية ناجزة أو مكتسبات سياسية مستدامة، مشيدة على نزعات التطرف القصوى التي اتخذوها طوال سنوات، وربما عقود.
مثلاً، كم يبدو هذا السؤال حاضراً وبديهياً وواجباً على “حزب الله” اللبناني وقاعدة مؤيديه، النخبويين منهم تحديداً. فمنذ تحرير الجنوب عام 2000، على الأقل، جرب واستخدم هذا التنظيم السياسي/العسكري كل شيء في سبيل تركيب وفرض المشروع الإيراني على الواقع اللبناني، محاولاً تجاوز حقيقة وجود دولة لبنانية قائمة على نظام ديمقراطي، ولو بالحد الأدنى، ومجتمع لبناني رافض للانصياع والانضواء ضمن فضاء ثقافي وسياسي شديد العوز، يطلبه له هذا “الحزب”، وما نجح قط.
أنفق “حزب الله” مليارات الدولارات في سبيل ذلك، واشترى الكثير من الذمم وتبنى مجموعة من قادة الرأي الذين روجوا لمشروعه بخطابية مُفزعة، ومارس الاغتيال السياسي وخاض حروبا أهلية مُقتضبة، كان لها أن تكون كبيرة ودائمة لو استجاب لها خصومه السياسيون، وأتخم لبنان بترسانة مريعة من الأسلحة وشارك في حروب إقليمية، وعطّل الحياة السياسية في البلاد، وحاول جاهداً تغيير الوجه الثقافي والروحي للحياة العامة في البلاد قدر المستطاع، وكان مساهماً أولاً في تدمير اقتصاد البلاد، ومُعكراً دائماً للسلام المجتمعي. لكن، ومع كل ذلك، ما استطاع تغيير جذر الأشياء، فهو يجد نفسه اليوم، مع قاعدته الشعبية، في كارثة ميدانية وهزيمة سياسية مريعة، ليس من مُغيث له إلا الدولة اللبنانية، التي جاهد طويلاً في سبيل محقها.
لا تبعد حركة “حماس” الفلسطينية عن الموقع والسؤال ذاته. فما جربته مطولاً من تطرف سياسي مزايد على الخيارات الواقعية لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، وما استخدمته من خطاب شعوبي وسلوك ميداني تدخلي في شؤون الدول الأخرى، لم يتحول إلا وبالاً سياسياً وميدانياً عليه، وكارثة إنسانية على الشعب الفلسطيني.
العزلة عن العالم الخارجي أمر مستحيل والنزوع لتغيير جذر الحقائق الحياتية هو اندراج ضمن هلاك عام، وهي كلها ديناميكيات مناهضة للتطرف السياسي، كشفتها الحرب الأخيرة
يُمكن ببساطة توسيع دائرة المندرجين ضمن هذه النوعية من الفاعلين السياسيين، لتضم قوى مثل الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن والنظام السوري ونظيره الإيراني وحتى اليمين الإسرائيلي المتطرف. فكل هؤلاء، جربوا وفعلوا كل شيء، لكن دون أن يحصلوا على ما يصبون إليه ويكرسوه.
الاستثنائي كان في أن حالة الحرب الطويلة التي شهدتها المنطقة طوال الشهور الماضية، كشفت العورة السياسية والخواء الأيديولوجي لهم جميعاً، كقوى وتيارات حاولت تطبيق مشاريع سياسية وميدانية بحدها الأقصى، متصدية ومحاولة قسر أصل الأشياء وجذرها، وفرض مجموعة من المتخيلات على حقائق الحياة.
كشفتهم الحرب تماماً، لأنها بمعنى ما سدرة القدرة على تغيير الوقائع ميدانياً. لكن مجرياتها أثبتت استحالة اجتراح شيء من ذلك. على العكس تماماً، فضحت الحرب الحقائق المستترة، وكشفت كيف أن البنى الأكثر واقعية وجذرية وحقيقية، مثل مركزية مؤسسات الدولة وفاعليتها وحتمية النزوع للتوافق مع الشركاء والخصوم السياسيين وبداهة أن الحلول يجب أن تكون سياسية أولاً ودائماً، وأن الميادين أقرب ما تكون للمقولات الشعرية منها للمشاريع السياسية والحياتية المستدامة، ومثلها أشياء مثل أن العزلة عن العالم الخارجي أمر مستحيل والنزوع لتغيير جذر الحقائق الحياتية هو اندراج ضمن هلاك عام، وهي كلها ديناميكيات مناهضة للتطرف السياسي، كشفتها هذه الحرب الطويلة.
لكنهم ليسوا كثيرين، هؤلاء الذين يتفكرون.
المجلة