أردوغان-الأسد.. جذر “بستنة البشر”

1٬014

رستم محمود-الحرة

على الرغم من تعارض تطبيق ما قد يتفقان عليه مع الوقائع وأصل الأشياء، إلا إن الرئيسين أردوغان والأسد متأكدان من أنهما يمكن أن يطبقا أي شيء يتفقان عليه على الأرض!

هما متأكدان من ذلك، حتى لو كان ذلك الشيء متعلقا مثلا بنقل ملايين السكان من دولة إلى الأخرى، دون أي اعتبار لما قد ينتج عن ذلك من تدمير لروابط وشبكات ونوعية حيواتهم، أو دفع لملايين آخرين ليدخلوا ضمن مقصلة حُكم غارق في الشمولية، أو أن يطبقوا اتفاقا قائما على تحطيم منظومة حُكم محلية وبعثرة سكانها، تلك المنظومة التي حاربت تنظيم داعش الإرهابي لعشر سنوات، وبذلت في سبيل ذلك عشرات آلاف الضحايا، ويمكن لتحطيمها أن يعيد الحياة لذلك التنظيم الإرهابي. أو أن يغضوا النظر عن جرائم طالت مئات الآلاف من الأناس، أو إلغاء لملكيات مئات آلاف آخرين، أو أي شيء آخر. 

فالرئيسيان، ومعهما تشكيلة كاملة من الفاعلين والسياسيين وإدارة الحُكم، يشكلان منظومة سلطوية تملك اعتدادا غير معقول بالذات وثقة بإمكانية فعل أي شيء. وهي بمجموعها نوعية من السلوك والمنطق في التعامل مع أي “استعصاء سياسي”، عبر محقه، متأت من تاريخ مديد من مثل هذه التجارب، التي نفذتها قوى الحكم في منطقتنا مرات لا تُعد. 

فكل جزيئية من استراتيجية التقارب بين الرئيسين التركي والسوري هذه، ونظامهما، تشبه “لعبة المونوبولي الكارتونية”، أكثر بكثير من شبهها لأي شيء متعلق بالسياسة والمجتمع، والحياة نفسها. وليس في هذا ما هو غريب، فالتاريخ والحاضر السياسي لمنطقتنا، حسب حقيقته العارية، كان كذلك على الدوام. كانت روح الساسة وآليات السياسية فيها قائمة على تلك الرؤى التي تجمع أوهام الهندسة الاجتماعية بأعلى درجات الغطرسة. فما يجذب الفاعلين ويدفعهم لفعل ذلك، هي مخيلاتهم ورؤاهم الأكثر ضيقا، مصطفة إلى جانب مصالحهم السلطوية الأكثر مباشرة. وهو أمر سيتكرر مرة أخرى في تجربة الرئيسين: فوز لهذا في الانتخابات المقبلة، وإعادة تعويم وشرعنة للآخر، دون أي اعتداد بأصل الأشياء وركائزها الأكثر بداهة وحقيقية، ممتلكاتهم ومصائرهم وحقهم في الحياة والحصول على درجة ما من الأمان. 

فما كان يسمى يوما في التجارب العالمية بـ”الفاشية”، هو تقريبا ممارسة عمومية في تاريخنا السياسي الحديث. إذ نادرا ما صادفت هذه المنطقة زعامات ونظما حاكمة لا ترى الحياة والمجتمعات والكيانات والأنظمة على شكل بستان مملوك للذات، يمكن ترتيبه وإعادة تشكيله وتوزيعه حسب ما قد يكون مناسبا. فعلى الدوام كان ثمة جهة ما معتدة بالقوة المحضة فحسب، سواء أكانت تلك الجهة حزباً أو إيديولوجيا أو عرقاً أو نظاماً سياسياً أو حتى شخصاً، ترى في نفسها القدرة والقابلية على إعادة تشكيل الأشياء من جذورها، لتكون مطابقة لشرط سلطوي وآخر في المخيلة. وإن صدف ووجدت ممانعة ما لتنفيذ ذلك، فسكة التعامل مع تلك الممانعة تمشي عبر حقول الإبادة.  

ربما كانت المأساة الأرمنية والسريانية الأكثر وضوحاً في بدايات القرن، لكن مسيرة كاملة من الإبادات ومشاريع التغيير الديموغرافي والمحق البيئي والنقل السكاني والإلغاء الثقافي مرت في مختلف بلدان المنطقة منذئذ. استمدت منها الأنظمة والتيارات الإيديولوجية والتنظيمات الحزبية العافية والاعتداد والاعتقاد بإمكانية التكرار إلى ما لا نهاية. ولن تكون تجربة الرئيسين المتوقعة في الأفق المنظور خارج هذا الفضاء الكلي. 

لماذا؟! 

لأن مجموع تلك الأفعال التي قامت بها الأنظمة والسلطات الحاكمة، وإلى حد كبير اشتركت بها المجتمعات ضد بعضها البعض، لم يطلق في وجهها أية معارضة كانت، سواء تلك المعارضة السياسية الحامية، أو نظيراتها الثقافية والفكرية والفنية، الباردة والمستدامة، أو حتى تلك الوظائفية، التي تفعلها عادة المؤسسات والمنظمات الدولية ذات الشأن، أو حتى الأبسط إيماناً، المتعلقة بالمعارضة الأخلاقية الفردية لمثل تلك الأفعال. 

بمعنى أكثر مباشرة: لم تصبح الإبادة ومشاريع الهندسة الاجتماعية وبرامج تغيير شكل الحياة قضية ومسألة ذات أهمية وتنازع وتفكير وشجب وإدانة بالنسبة لنخب ومجتمعات منطقتنا. فهي تجري وكأنها شيء عادي، رتيب ومن الحياة نفسها. 

يُمكن تحديد “حملة الأنفال المريعة” التي نفذها النظام البعثي بحق الأكراد في ثمانينيات القرن المنصرم، وراح ضحيتها قرابة ربع مليون كردي عراقي، أغلبيتهم المطلقة من المدنيين، النساء والأطفال تحديداً، من الذين دفنوا أحياء في مقابر جماعية جنوب العراق، كمثال واضح عن ذلك.  

فحتى الراهن، تتراوح مواقف المجتمعات العراقية، غير الكردية، من هذه الفعلة الفظيعة بين النكران والتبرير والتشكيك، دون أية حمية لنقاشها، سياسياً فكرياً إيديولوجياً وإنسانياً. إذ لم يُكتب عنها مثلاً قصيدة شعرية ولم يُنتج فيلم سينمائي واحد عنها، ومجموع المقالات والكتب انتجها فاعلون أكراد، خلا مثال أو أثنين.  

الأمر نفسه كان ينطبق على كامل الإقليم، فكل دول جوار العراق، حتى أكثرها عدائية لنظام صدام حسين وقتئذ، لم ينطقوا بحرف عنها. الأمر نفسه كان يُطبق على الدول الكبرى والمؤسسات الدولية، التي ما تذكرت ذلك إلا بعد سنوات، حين صارت مستفيدة من شيطنة نظام صدام حسين بعد حرب الخليج.  

حدث الأمر نفسه مع المسألة الأرمنية/السريانية من قبل، ولحقه حرق آلاف القرى الكردية في تركيا ونقل سكانهم إلى الدواخل التركية، وما سبقها من نقل لمئات الآلاف من الإيرانيين من غرب البلاد إلى صحاري خرسان، وما فعله النظام العراقي من قطع للمياه عن أهوار جنوب العراق لمحق سكانه، النوبيون جنوب مصر لاقوا الأمر نفسه، وبعدهم كان النظام السوري يزيد من أعداد البدو في محافظة السويداء لكسر الأغلبية الدرزية، وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية أبيدت بلدات وتغيرت ملامح مدن، وأثناءها كان نظام الأسد يزرع عشرات القرى العربية في المناطق الكردية، لكسر الوحدة الجغرافية للأكراد السوريين، وهكذا. 

لكن في المحصلة، لم تتحول مجموع تلك الأفعال إلى قضايا ومسائل، إلى مسائل على جدول تفكير وموافق أناس هذه المنطقة، وبذا لم يملكوا الأدوات العقلية والوجدانية والروحية لرفض بستنة البشر، للوقوف في وجه هذه النوعية من المخيلات والاستراتيجيات المريعة. لذا يُستسهل إعادة تنفيذها، وبالذات بحق ضحايا جدد، كانوا صامتين حينما كانت تلك الأفعال تمارس بحق ضحايا آخرين.  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.