القبيسيات و”طبقة الخواء الثرية”
شكل رحيل مؤسِسة “شبكة النساء القُبيسيات” قبل عدة أيام، السيدة منيرة القُبيسي، مناسبة استثنائية لبروز “انسجام نادر” بين أقطاب النظام والمعارضة السورية، التي توافقت على نعي الراحلة وكيّل أشكال المديح لها ولمسيرتها الدعوية والتنظيمية.
ذلك التوافق الذي يدل على مجموعة من السمات الخاصة لشكل الحياة العامة داخل سوريا طوال عقود كثيرة مضت، والمتأت من التاريخ الأبعد لهذه الجهة الدعوية/النسوية، التي كانت من طرف محل قبول عمومي من مختلف المؤسسات و”زعماء” التيارات الدينية في البلاد، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الحركات الدعوية والسياسية الدينية السورية، حيث كان زعماؤه يشبهون حالة زعامات الحارات الدمشقية القديمة، متنابذين فيما بينهم، بالرغم من الوفاق الإيديولوجي. كذلك فإن القبيسيات كُن مقبولات ومرحب بهن من قِبل أجهزة النظام السوري وتنظيمات المعارضة الإسلامية على حد سواء، وهو ما كان أكثر ندرة بدوره.
يفتح هذا الموقع المتفرد الذي شغله هذا التنظيم، سؤالا كبيرا حول ما تكنه من سمات ونزعات وآليات عمل، وما توفره من شروط ومناخات وتلبية لمجموعة من المصالح، تجعل منه قادرا على البقاء في هذا الموقع غير العادي، كجهة وحيدة “مقبولة من الجميع”، بالرغم من التناقضات السياسية والإيديولوجية الهائلة بين هؤلاء، خصوصا في مساحة مركزية مثل العاصمة دمشق، التي كانت مركزا لمحصلة التناقضات السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والأهلية في البلاد.
يمكن استنباط الإجابة على ذلك من عدة مصادر أولية، متأتية بمجموعها من جذر وهوية هذا التنظيم الدعوي/النسوية، الذي لغير صدفة انطلق منذ أواسط الستينات، بالذات في العاصمة دمشق، وانتشر في أوساط الطبقة العليا والمحافظة من أبناء المدينة، وعبر نوعية خاصة من العلاقات والتراتبية التنظيمية، ودوما حسب قائمة من الخطابات والإيديولوجيات والرؤى الدينية.
فالفترة التاريخية التي أنبلج فيها التنظيم أواسط الستينات، كانت بالضبط المرحلة التي أنتهى فيها “عصر التحديث المحلي” في سوريا، بالذات في مدينة دمشق. تلك المرحلة التحديثية التي كانت قد انبعثت في عقد الثلاثينات من القرن المنصرم، أثناء سنوات الاستعمار الفرنسي، وطالت طبقات واسعة من أبناء المدينة، وكانت الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها البلاد تعبيراً وانعكاساً عنها. لكنها انتهت فعلياً مع الانقلاب العسكري لحزب البعث عام 1963، الذي أدخل سوريا في مرحلة كانت مزيجاً من العسكرة والبعثنة الإيديولوجية للحياة العامة وصراع الطوائف.
ضمن ذلك السياق، فإن الحركة القُبيسية، مثل غيرها من التنظيمات الدينية التي تنامت أثر ذلك، كانت واحدة من أدوات وتعابير تراجع طبقات مدينة دمشق الاجتماعية “نحو الوراء”، عما كانت تسير نحوه من تحديثه قبل ذلك.
لكنه أساساً، وعبر ذلك، كانت الأداة التي تمنح عشرات الآلاف من نساء الطبقة المدنية الثرية أدوات الوعي الأعلى في الحياة، كالثقافة العامة وأدوات الخطاب ونوعية السلوك ومعنى الحياة والرؤية للذات. فأبناء هذه الطبقة، التي من المفترض أن يكونوا “البرجوازية المحلية العليا”، ومع فقدانهم لسياق التحديث ومؤسسات الحريات العامة، الاجتماعي والثقافية والسياسية على حد سواء، صاروا متلهفين لمثل تلك الشبكات وإيديولوجياتها وخطاباتها، التي تكاثرت مع زيادة مستويات الشمولية السياسية وتراجع اندماج سوريا مع الكل العالمي.
لكن تناميها تنظيمياً في أواسط “العائلات الدمشقية الرئيسية”، كان علامة وردة فعل أخرى على الانفجار السكاني للمدينة طوال العقدين اللاحقين. فالمدينة التي كانت بقرابة نصف مليون ساكن فحسب في أواسط الستينات، ومعزولة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً حتى عن ريفها الأقرب، وجدت نفسها بعد سنوات قليلة غارقة في بحر مؤلف من ستة ملايين ريفي، مهاجر إليها من مختلف أصقاع البلاد.
كانت الشبكة القبيسية منصة كبرى للتلاقي العائلي والثقافي لأبناء المدينة الأكثر محافظة على المستوى الاجتماعي. هؤلاء الذين كانوا مشغولي البال بتبدد مجتمعهم المحلي وتحطم نوعية التراتبيات العائلية والمهنية والحاراتية فيما بينهم، إلى جانب تفكك عالم القيم الذي كان يشكل الروابط فيما بينهم من قبل.
فالحركة القبيسية، مثل مختلف أنواع التنظيمات الأهلية في الأوساط المحلية، لكن الدينية منها بالذات، كانت بمثابة عائلة كبرى، تتعارف فيه السيدات وتتبادلن الزيارات والعلاقات العائلية النسوية، تحصل في ظلالها تلك النوعية من الزيجات المحلية المحافظة، القائمة على توافق الأهل، إلى جانب بعض أشكال المساندة النفسية والدعم
الاقتصادية والمؤازرة الاجتماعية التي كُن يتبادلنها.
في مستوى أعلى، فإن بقاء القبيسيات كمنظمة شبه احتكارية لأبناء الطبقات المجتمعية الأكثر ثراء وفاعلية في الفضاء العام متأت بدوره مما حدث مع أغلب أبناء العائلات الدمشقية هذه، وعلى مراحل متعاقبة، منذ أواسط الستينات.
فخروج هؤلاء من الحياة السياسية والهيكل السلطوي في البلاد، ترافق مع توافق مُضبط مع السلطة الحاكمة، وإن غير معلن، بالذات مع الرئيس السابق حافظ الأسد: قائم على متاركة متبادلة، بحيث يتخلى هؤلاء عن أية نزعة أو مطالب أو حضور سياسي، مقابل أن يؤمن لهم حضور ونفوذ اقتصادي متمايز في عالم الأعمال والتجارة في البلاد.
ضمن ذلك الفضاء، صار أعضاء هذه الطبقة يملكون شبكة كبرى من المصالح والمنافع الاقتصادية المشتركة، استطاع تنظيم مسموح به مثل “شبكة القبيسيات” أن يكون غطاء لخلق التواصل وتبادل العلاقات بين أعضاء تلك الطبقة، وإن عن طريق علاقات “الزوجات”، طالما كانت البلاد في حالة “منع عام” لأية تنظيمات اقتصادية أو سياسية عمومية، مثل الأحزاب والنقابات واتحادات رجال الأعمال.
فأعضاء التنظيم، بالذات أفراد الطبقات العليا منه، كانوا يسيرون شبكة سائلة من العلاقات والمصالح والمنافع المتبادلة، ويؤمنون مناخ من الطمأنينة فيما بينهم، تشبه تلك نوادي العلاقات النخبوية في مختلف بلدان العالم، التي قد ترى فيها فناناً مشهوراً إلى جانب سياسي سلطوي ورجل دين ولاعب رياضي على نفس الطاولة. فالكل بحاجة الكل، والكل يعرف ذلك ويتواطؤ معه وحسبه، كأعضاء في أعلى هرم المجتمع.
بجمع كل ذلك، يُكتشف بأن الشبكة كانت استجابة لظرف المدينة المركزية في البلاد، ومنبثقة من باطن الوقائع السورية. لأجل ذلك، فإنها كانت مناسبة لطرفي المزاحمة، الطبقات المجتمعية العليا من أبناء دمشق، الذين خرجوا من الحياة السياسية، فتآلفوا على مثل هذه التنظيمات. الأمر نفسه كانت تحتاجه السلطة الحاكمة، التي كانت تتلهف لابتداع أنواع من “التعويض الآمن” لأبناء هذه الطبقة، ليقبلوا بالبقاء الدائم خارج السلطة الحقيقية الحاكمة للبلاد. فجميع هؤلاء كانوا القمة العليا من “هرم القوة” في البلاد، وصراعهم السياسي على السلطة في البلاد طوال السنوات الماضية، لا يعني بأي شكل التاريخ المشترك المديد الذي كان بينهم، وغالباً سُيستعاد مرة أخرى عما قريب.
-الحرة-رستم محمود