ما هو مركز الكون في تركيا..!
رستم محمود

3٬008

كيف يمكن وصف النظام العام وشكل الحياة في بلدٍ مثل تركيا، حيث هناك قرابة 200 ألف ملف تحقيق ومحاكمة قائمة بحق مواطنين مُتهمين بـ”إهانة الرئيس”!، لا تقل عقوبة المُدان فيها عن السجن مدة خمس سنوات، كما حصل مع 13 ألف متهم منهم على الأقل!.
في هذا البلد، وضمن هذا الملف فحسب، وبعد بعض الحسابات البسيطة، يُمكن الكشف عن الكثير من الأرقام التي تُمثل دلالة على شكل الحياة هناك: إذ لو كان لكل فرد من هؤلاء عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص مثلاً، فإن الأمر يعني أن حياة مليون شخص في البلاد متوقفة بسبب كلمة بسيطة نطق بها واحد من أفراد عائلتهم، بحق شخص يتحكم ومسؤول عن كل شيء في البلاد، أقلها فقدان العملة الوطنية لـ90 بالمئة من قيمتها خلال 6 سنوات مثلاً!.

وأيضاً يمكن القول إنه ثمة مليون موظف عمومي، بين قضاة وسجانين ومخبرين وأفراد أمن ومدعين عامين، ليس لهم عمل سوى ملاحقة عشرات الآلاف من الأناس الذين تعتبر السلطات أنهم “يهينون الرئيس”!، ويتقاضى هؤلاء لأجل ذلك رواتب من الخزينة العامة، وغالباً مكافآت وامتيازات. ومع الأمرين، ثمة عشرات الملايين من الأناس الآخرين، الذين يحبسون ويضبطون ويراقبون أية كلمة يُتفوه بها، كي لا تُحسب واحدة من ترسانة الأقوال وأشكال التعبير المُعتبرة كـ”إهانة للرئيس”!.

لكن مجموع ما يحدث هو أمر قانوني تماماً، وفقاً للمادة 299 من قانون العقوبات التركي، الذي أُقر في السنوات الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية (عام 2005)، لكن الخاضعين له وقتئذ كانوا بضع مئات كل عام، ما لبسوا أن تحولوا إلى عشرات الآلاف مع صعود رجب طيب إردوغان، الذي ما أن سيطر على الجهاز القضائي عقب حادثة الانقلاب المشكوك بأمره في العام 2016، حتى دفع المحكمة الدستورية لأن تعتبر “إهانة الرئيس بمثابة إهانة للأمة التركية”، وتالياً تميزه مطلقاً عن أي موظف خدمة عامة آخر، وتقريباً تأليهه.

لكن ليس هذا القانون وحده الذي يشكل ذلك التقسيم الجذري، بين أناس وتيارات وأيديولوجيات وسلطات ونوعية من التفكير، تعتبر نفسها “مركز الكون”، في مواجهة “الآخرين”، المحليين والعالميين على حد سواء، الذين هُم حسب ذلك التصنيف إنما هوامش وأطراف وآخرون، قابلون ومنذورون للتبعية والطاعة والمراقبة والعِقاب.

طوال تاريخها الحديث، لكن بكثافة خلال السنوات الماضية، ضجت تركيا بأعداد هائلة من القوانين وأدوات الحكم التي تصنع ذلك، تشريعات مناهضة للنساء، وأخرى تقصي الحقوق القومية والثقافية للأكراد والعلويين، وثالثة تعتبر المثليين وحقوقهم خطراً داهماً على العائلة، وخامسة تسعى لضبط المجالس الجامعية، وأخيرة تضع سيلاً من الشروط والموجبات على الحريات الإعلامية، وقبلها بشهور تحطم استقلالية البنك المركزي وتجعله تابعا للقصر الجمهوري.. وهكذا.

لا يحدث كل ذلك لمصادفة أو تحول ما في بنية النظام السياسي وشكل الدولة ودورها في تركيا، بل تأتي كتتمة واستمرارية طبيعية وانسيابية للمقدمات والمسارات التاريخية والحديثة التي خاضها هذا الكيان، منذ عبوره العصر الإمبراطوري إلى ما قيل إنها “الدولة الحديثة”، قبل قرن من الآن.

فعلى العكس من الكيانات التي تصنع بها الحروب والتحولات الكيانية تبدلات جذرية في النظام العام وشكل الحياة، مثلما كانت التجربة الأوربية في نفس الوقت، فإن الأمور بقيت في تركيا على حالها، منذ الزمن العثماني إلى نظيره الراهن.

فإذا كان الشرط والخيلاء الإمبراطوري يفترض نفسه مركز الكون، ويمنح عقائده وسبل عيش أفراد العائلة والعرق والديانة الحاكمة قيمة مطلقة، مضافة لقداسة استثنائية للحاكم الأعلى، وإلى جانبهم طبقات كثيرة من المجتمع المخملي والأيديولوجيات الرسمية والأنظمة المضبوط؛ فإن ذلك عادة ما يجب، ومن المفترض أن تتفكك في الكيانات الحديثة، الأصغر حجماً وأدلجة واعتداداً بذاتها.

إذ تصير هذه الكيانات تتخيل نفسها كجزء صغير وهامشي من الحياة الكونية، وعضواً متعاوناً ومستفيداً من ومع الكل العالمي، وتتصور ثقافاتها المحلية جزء من الثقافة العالمية، فيما مختلف أفراد مجتمعه، بما في ذلك الحاكمون، أناس عاديون ومتساوون مع غيرهم، دون قداسة لهم أو مركزية لجماعاتهم الأهلية، خاضعون للقانون والأعراف الآدمية العادية، دون تأليه وأبهة واعتداد مرضي بالذات.

لم يحدث أي شيء من ذلك في ظلال الدولة التركية الحديثة عقب العصر العثماني. فتقديس العائلة العثمانية وتاريخها الحربي ما لبث أن شغله مصطفى كمال أتاتورك، الذي غدا فعلياً إلهاً أرضياً. والمركزية والإطلاق الذي كان الإسلام السُني يشغلهما ضمن الإمبراطورية العثمانية، حلت القومية العرقية التركية مكانه، فيما احتل الجيش التركي وما روجه عن نفسه منطقة التبجيل الأعلى، لأنه حسب العقيدة والدين الرسمي إنما يرمز للأمة، وتالياً صار منزها وأعلى من أية مساواة مع الآخرين من مواطني البلاد.

يخدم هذا التفسير أشياء كثيرة، أقلها نفي أن تكون مشكلة تركيا “مجرد إردوغان”، كما توهمت التفسيرات الخاصة بالكثير من بلدان منطقتنا، بالذات في المراحل السابقة والسنوات الأولى لموجة الربيع العربي.

ففي تركيا، كما غيرها، ثمة توازنات ومسارات وتواريخ ذاتية لهذه الكيانات، بالذات من حيث مكانة الدولة وعلاقة السلطة بالمجتمع، والوعي الجمعي لهذا الأخير بنفسه وكيانه، وتالياً العالم، وحيث أن تلك العلاقات والمخيلات، هي التي تقريباً تصنع كل شيء، النظام العام وشكل الحياة، على الأقل.

-الحرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.