كان سبب الغزو الروسي لأوكرانيا واضحًا حيث أرادت موسكو إعادة ترميم عمقها الاستراتيجي. ومع ذلك، لم يكن أي شيء مما تفعله روسيا واضحًا منذ ذلك الحين.
لقد عانى الجيش الروسي من عدة انتكاسات. وبالرغم أن هذه الانتكاسات هي جزء من الحرب والقادة الحصيفون يتوقعونها ويستجيبون لها (من الناحية المثالية تهدف الاستجابة إلى حل المشكلة أو على الأقل تخفيفها مع استمرار الحرب) لكن موسكو تتصرف وكأن التحديات التي تواجهها مفاجأة.
افترضت روسيا منذ البداية أنها ستكون قادرة على سحق جيش أضعف بكثير خلال وقت قصير. وكان التوقع هو أن الجيش الأوكراني سوف يتفتت، وبالتالي لن يكون قادرًا على تقديم الكثير من المقاومة. واعتقدت موسكو أن أوكرانيا تؤمن بنفس الشيء.
ولا يعد تقدير الموقف الأولى (الخاطئ) هو المشكلة الأساسية لدى الروس حيث تكمن المشكلة الأساسية في أن هيكل القيادة الروسية، بدءًا من القمة من “فلاديمير بوتين”، لم يراجع الموقف ويعيد تقييم الأمور، بل احتفظ بنفس القدر من الثقة بدون أساس.
ويجب أن تُبنى القوة الغازية على افتراض أنها تتعامل مع عدو قوي ومتحفز، وأنها بحاجة إلى الاستعداد لحرب صعبة.
في غضون ذلك، لم تتوقع روسيا أيضًا القدر الهائل من المساعدات والأسلحة التي سترسلها الولايات المتحدة. لقد رأت أن الولايات المتحدة مفككة سياسياً واجتماعياً ولديها معارضة قوية لأي تدخل خارجي في هذا الوقت.
وكان الروس ناجحين للغاية في شن الحرب النفسية كأحد الأبعاد الرئيسية للقتال وساهموا بالفعل في خلق انقسام حول الحرب في الولايات المتحدة.
واعتقدت موسكو أن الولايات المتحدة سوف ترى سقوط أوكرانيا ونشر القوات الروسية على الحدود الشرقية للناتو كوصفة محتملة لحرب باردة أخرى. وربما ترغب واشنطن في الرد لكنها ستكون مجزأة للغاية للقيام بذلك، أو هكذا ذهب التفكير الروسي.
وكانت هذه الإخفاقات في التقدير واضحة منذ بداية الحرب، حيث نشرت روسيا 3 تشكيلات مدرعة لكسر المقاومة الأوكرانية، التي اعتقدت أنها ستكون أقل شأنا بكثير ومعزولة عن المساعدة الأمريكية، لكن الأمر لم يكن كذلك.
وتعرض الروس لتقيدات تشغيلية بسبب مشاكل لوجستية خاصة بهم وكذلك صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات. وتوقفت الدبابات الروسية في مكانها أو أحرزت تقدمًا ضئيلًا. ومع جرأة الأوكرانيين، أجبر الروس على إعادة تقييم خصمهم. لكن يبدو أنهم غيروا تكتيكاتهم دون تغيير رأيهم في عدوهم.
وبالرغم أن الروس وحدوا قواتهم في دونباس وخاضوا معركة طويلة للسيطرة هناك، لكنهم لم يتقدموا إلى غرب أوكرانيا. لقد تراجعوا ببساطة نحو حدودهم. وكانت هذه لحظة حاسمة بالنسبة لروسيا.
كان من الواضح أن الأوكرانيين قوة قتالية كبيرة ومتماسكة، وكان من الواضح أن الولايات المتحدة لن تحد من دعمها، حتى مع تكثيف البولنديين لتدريب الأوكرانيين. وطوال الوقت، قامت الاستخبارات الغربية برسم خرائط القوات الروسية والتحركات الروسية المتوقعة. وفي كثير من الحالات، كانت القوات الأوكرانية قادرة على مهاجمة القوات الروسية في نقاط ضعفها أو التراجع عندما تبدو الهجمات الروسية مكلفة للغاية.
في هذه المرحلة كان على الروس إعادة تقييم احتمالية نجاحهم، فلم تحقق العمليات الهجومية سوى نجاح محدود، لقد فاق عدد القوات الأوكرانية القوة الروسية وحاربوا بانضباط، بينما قدمت الولايات المتحدة السلاح والاستخبارات.
وقبل الحرب، احتفظت روسيا بقوة محتملة كافية لإخافة الغرب، وهي القوة التي كان يجب أن تستخدمها في السعي لتحقيق السلام من خلال المفاوضات. بعبارة أخرى، كان ينبغي لروسيا أن تتبع نصيحة الجنرال الألماني “جيرد فون روندستيدت” بشأن ما يجب القيام به قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، حين قال لقيادته: “اصنعوا السلام أيها الحمقى”.
ومع النكسات العسكرية المتتالية، يحاول “بوتين” حاليا تحويل الحرب من غزو روسي لدولة جارة إلى غزو أمريكي لروسيا. لقد هدد بشن حرب نووية وفرض تعبئة جزئية لآلاف الجنود الذين قد يتم تدريبهم بحلول نهاية الشتاء، أو ربما لا يتم تدريبهم أبدًا.
إن أصعب جزء في الحرب هو إنهاؤها دون نصر. لقد عانت الولايات المتحدة من ذلك في فيتنام. إن الحروب التي تبدو سهلة قد تكون الأصعب أحيانًا. ولم يعتقد أحد أن الحرب العالمية الثانية ستكون طويلة وصعبة وربما خاسرة، ولم تعتقد روسيا ولا الولايات المتحدة أنها يمكن أن تخسر في أفغانستان.
إنه شيء غريب عن الثقة. بالرغم أن الثقة ضرورية لخوض حرب، لكن أصعب حرب يمكن خوضها هي تلك التي يعتقد القائد أن النصر فيها أمر مفروغ منه.
وعندما بدأت روسيا الحرب، اعتقدت أن مجرد رؤية الدبابات الروسية سيشتت الجيش الأوكراني. ورفضت موسكو الاعتراف بالوقائع على الأرض واعتبرت أن النكسات عبارة عن أحداث عرضية، وليس دليلا على فشل كلي في تقدير قوة العدو وحلفائه. وفي الحرب، يكون الإنكار المستمر للواقع مميتًا.
إن “بوتين” مسؤول لأنه الرئيس. لكن هيئة الأركان العامة وأجهزة المخابرات تشاركه في المسؤولية عن هذه الكارثة. ما حدث في أوكرانيا هو انهيار منهجي للقيادة أدى بالبلاد إلى حرب غير مفهومة بشكل جيد، بينما تصر القيادة على أن النصر قاب قوسين أو أدنى.
عادة ما تنتهي حروب كهذه بموت سياسي، لقد أنهت فيتنام “ليندون جونسون”، وقضت الحرب العالمية الثانية على الأنظمة اليابانية والألمانية، لقد قاتل كل منهم على أمل ظهور شيء ما.
والسؤال المحوري هو: ما الذي يجعل روسيا تعتقد أنها يمكن أن تنتصر الأسبوع المقبل في حين أنها لم تنتصر منذ 7 أشهر؟ هناك أحيانًا إجابة على هذا النوع من الأسئلة، لكن السياسيين الروس يصرون على إلقاء اللوم على الآخرين في الفشل. ويخبرنا التاريخ أن صنع السلام يكون سهلاً فقط على أولئك الذين لم يبدؤوا الحرب.
المصدر | جورج فريدمان | جيبوليتكال فيوتشرز – ترجمة وتحرير الخليج الجديد